فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 19):

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
ولما لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار على الخلاف، قال مهدداً للمكذبين بعذاب دون عذاب جهنم، منكراً عليهم الأمان بعد إقامة الدليل على أن بيده الملك، وأنه قادر على ما يريد منه بأسباب جنوده وبغير سبب، مقرراً بعد تقرير حاجة الإنسان وعجزه أنه لا حصن له ولا مانع له بوجه من عذاب الله، فهو دائم الافتقار ملازم للصغار: {أأمنتم} أي أيها المكذبون، وخاطبهم بما كانوا يعتقدون مع أنه إذا حمل على الرتبة وأول السماء بالعلو أو جعل كناية عن التصرف لأن العادة جرت غالباً أن من كان في شيء كان متصرفاً فيه صح من غير تأويل فقال: {من في السماء} أي على زعمكم العالية قاهرة لكم، أو المعنى: من الملائكة الغلاظ الشداد الذي صرفهم في مصالح العباد، أو المعنى: في غاية العلو رتبة، أو أن ذلك إشارة إلى أن في السماء أعظم أمره لأنها ترفع إليها أعمال عباده وهي مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس والسلطان والكبرياء وجهة العرش ومعدن المطهرين والمقربين من الملائكة الذين أقامهم الله في تصريف أوامره ونواهيه، والذي دعا إلى مثل هذا التأويل السائغ الماشي على لسان العرب قيام الدليل القطعي على أنه سبحانه ليس بمتحيز في جهة لأنه محيط فلا يحاط به، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج؛ ثم أبدل من {من} بدل اشتمال فقال: {أن}.
ولما كانت قدرته على ما يريد بلا واسطة كقدرته بالواسطة، وقدرته إذا كان الواسطة جمعاً كقدرته إذا كان واحداً، لأن الفاعل على كل تقدير حقيقة هو لا غيره، وحد بما يقتضيه لفظ {من} إشارة إلى هذا المعنى سواء أريد ب {من} هو سبحانه أو ملائكته أو واحد منهم فقال: {يخسف} أي أأمنتم خسفه، ويجوز أن يراد ب {من} الله سبحانه وتعالى كما مضى خطاباً على زعمهم وظنهم أنه في السماء وإلزاماً لهم بأنه كما قدر على الإمطار والإنبات وغيرهما من التصرفات في الأرض فهو يقدر على غيره {بكم الأرض} كما خسف بقارون وغيره.
ولما كان الذي يخسف به من الأرض يصير كالساقط في الهواء وكان الساقط في الهواء يصير يضطرب، سبب عن ذلك قوله: {فإذا هي} أي الأرض التي أنتم بها {تمور} أي تضرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في القاموس: المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك.
ولما كانوا ربما استبعدوا الخسفة، وكانوا يعهدون ما ينزل من السماء من الندى والأمطار والصواعق، عادل بذلك قوله: {أم أمنتم} أي أيها المكذبون، وكرر لهم ذكر ما يخشونه زيادة في الترهيب فقال: {من في السماء} على التقديرين {أن يرسل عليكم} أي من السماء {حاصباً} أي حجارة يحصبكم- أي يرميكم- بها مع ريح عاصف بقوتها كما وقع لقوم لوط وأصحاب الفيل.
ولما كان هذا الكلام إنذاراً عظيماً ووعظاً بليغاً شديداً، وكان حالهم عنده متردداً بين إقبال وإدبار، سبب عنه على تقدير إدبارهم بتماديهم بما للإنسان من النقصان قوله متوعداً بما يقطع القلوب، ولفت القول إلى مقام التكلم إيذاناً بتشديد الغضب: {فستعلمون} أي عن قريب بوعد لا خلف فيه في الدنيا ثم في الآخرة.
ولما كان العلم بكيفية الشيء أعظم من العلم بمطلق ذلك الشيء لأنه يلزم من العلم بها العلم بمطلق ذلك الشيء، وكان ما هو بحيث يسأل عنه لا يكون إلا عظيماً قال: {كيف نذير} أي إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب وهو بحيث لا يستطاع، ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع، وحذف الياء منه ومن {نكير} إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطرق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد، لا غاية له بوجه ولا تحديد.
ولما كان من المعلوم أن المأمور بإبلاغهم وإنذارهم هذا الإنذار صلى الله عليه وسلم في غاية الرحمة لهم والشفقة عليهم فهو بحيث يشق عليه غاية المشقة ما أفهمه هذا الكلام من إهلاكهم أن يصدقوا، ويحب التأني بهم، لفت سبحانه الخطاب إليه عاطفاً على ما تقديره: فلقد طال إمهالنا لهم وحلمنا عنهم وتعريفنا لهم بعظيم قدرتنا وهم لا يرجعون وكثر وعظنا لهم وتصريفنا القول بينهم على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام وهم يتمادون ولا ينتهون، قوله مصوراً لهم ما توعدهم به في أمر محسوس لأن الأمور المشاهدات أروع للإنسان لما له من التقيد بالوهم مؤكداً للإشارة إلى أن التكذيب مع إقامة البراهين أمر يجب إنكاره فلا يكاد يصدق: {ولقد كذب} وطغى وبغى وأعرض وتجبر وتمرد وولى بوجهه وقلبه {الذين}.
ولما كان هذا التكذيب لم يعم الماضين بعض فقال: {من قبلهم} يعني كفار الأمم الماضية.
ولما كان سبحانه قد أملى لهم ثم أخذهم بعد طول الحلم أخذاً بقيت أخباره، ولم تندرس إلى الآن على تمادي الزمان آثاره، فكان بحيث يسأل عنه لعظم أحواله، وشدة زلازله وفظاعة أهواله، سبب عن ذلك قوله منبهاً على استحضار ذلك العذاب ولو بالسؤال عنه: {فكيف كان نكير} أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب في تمكن كونه وهول أمره، فقد جمع إلى التسلية غاية التهديد.
ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريراً لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها: {أو لم يروا} وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل.
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال: {إلى الطير} وهو جمع طائر.
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال: {فوقهم} وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها {صافات} أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والبقض طارئ على البسط فقال: {ويقبضن} أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء. ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله: {ما يمسكهن} أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال: {إلا الرحمن} أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن- بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد- على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات.
ولما كان هذا أمراً رائعاً للعقل، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكداً لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم: {إنه} أي الرحمن سبحانه {بكل شيء} قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن {بصير} بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب، فيهيئ من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك.

.تفسير الآيات (20- 23):

{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)}
ولما كان التقدير تقريراً لذلك: فمن يدبر مصالحكم ظاهراً وباطناً، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم، عطف عليه قوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التكبيث والتوبيخ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب مقرراً لأنه مختص بالملك: {أمن} ونبه على أن المدبر للأشياء لابد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ليكون بصيراً برعيها، ويكون مع مزيد قربه عالي الرتبة بحيث يشار إليه، فقال مقرراً لعجز العباد: {هذا} بإشارة الحاضر {الذي} وأبرز العائد لأنه لابد من إبرازه مع الاسم بعدم صلاحه لتحمل الضمير فقال: {هو جند} أي عسكر وعون، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في التقريع فقال: {لكم ينصركم} أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما، ويجوز أن يكون التقدير: ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا كما قال تعالى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند تعريفاً بأنهم لغاية جهلهم اعتقدوا أن لهم من أجناد الأرض أو السماء من ينصرهم وإلا لما كانوا آمنين.
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب: {من دون الرحمن} إن أرسل عليكم عذابه، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة، وتلويحاً إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك: {إن} أي ما، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ومواجهة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال: {الكافرون} أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه {إلا في غرور} أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد.
ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء، أتبعه ما يتم به البقاء فقال: {أمّن} وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله: {هذا} وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية، فقال: {الذي} وأسقط العائد لتحمل الفعل له فقال: {يرزقكم} أي على سبيل التجدد والاستمرار، لا ينقطع معروفه أبداً مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة.
ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل، فكان موضع أن يقال: هل رجعوا عن تكذيبهم، عطف عليه قوله لافتاً الكلام إلى الغيبة إعراضاً عنهم تنبيهاً على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم: {بل لجوا} أي تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة، قال الرازي في اللوامع: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه {في عتو} أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور} أي شراد عن حسن النظر والاستماع، دعا إليه الطباع، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين: {أفمن يمشي} أي على وجه الاستمرار {مكباً} أي داخلاً بنفسه في الكب وصارا إليه، وهو السقوط {على وجهه} وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه، واضطراب في عقله ورأيه، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك.
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال: {أهدى} أي أشد هداية {أمّن يمشي} دائماً مستمراً {سوياً} قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله {على صراط} أي طريق موطأ واسع مسلوك سهل قويم {مستقيم} أي هو في غاية القوم، هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ، والأول مثل الكافر، حاله في سيره إلى الله حال المكب أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما، والآية من الاحتباك: ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم.
ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه ديناً، فهو أشرف من الطريق المحسوس، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من الأول، قال آمراً للرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل، إسقاطاً لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة والفهم: {قل} أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سوياً: {هو} أي الله سبحانه وتعالى {الذي} شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي {أنشأكم} أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ويسر لكم بعد خروجكم الخروج اللين حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه.
ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل، أتبعه به، وبدأ بطريق تنبيهه فقال: {وجعل لكم} أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه {السمع} أي الكامل لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعاً لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار، وهذا تنبيه على إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر، قال الشيخ ولي الدين الملوي: انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، وأن الضدين لا يجتمعان- وغير ذلك مما لا يخفى.
ولما كان التقدير: فمشيتم مشي المكب على وجهه فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له، كانت ترجمة ذلك: {قليلاً} وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال: {ما} ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله: {تشكرون} أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره باستعماله فيما خلق لأجله تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.